لا .. شكرا ..
قالت ، محاولة دفعي للكلام :
ـ كيف الإحصاء ..؟
ـ ممتاز ..
ـ حقا .. هذه أخبار سارة ، كنت أنوي أن أعرض المساعدة .
ـ أحد الأصدقاء ساعدني ..
ردت بلهجة لا تخلو من الغيرة :
ـ لابد أنها صديقة خاصة ..
أجبت بحزم :
ـ إنه صديق ..
خجلت .. و قالت :
ـ من بلدك .. ؟
ـ نوعا ما .. إذا اعتبرنا الوطن العربي الكبير بلد واحد ..
علقت .. وهي تفرج عن ابتسامة مترددة :
ـ هذا الكلام كأنه سياسة ، وأنا لا افهم في السياسة كثيرا ..
ابتسمت ابتسامة باهتة ، دون أن أعقب ، ونظرت إلى ساعتي ، ففهمت ما اقصد .. فقالت :
ـ تريد أن تذهب ، كنت قد نويت أن أدعوك إلى مطعم (هاي رووف) .. إنهم يقدمون عرضا خاصا ، ليلة كل جمعة
ـ .. يؤسفني أن لا أكون قادرا على تلبية دعوتك ، فقد تعشيت عند أحد الأصدقاء قبل أن آتيك .. كما أني مشغول كما أخبرتك من قبل ..
ثم أضفت ، محاولا تعزيتها لرفضي دعوتها ، وتعاملي معها بهذه الطريقة الرسمية جدا :
ـ تستطيعين أن تذهبي الليلة وحدك .. وآمل أن تتاح لنا الفرصة معا .. مستقبلا ..
رأيت الانكسار والخيبة على وجهها ، وهي ترد علي بأسى :
ـ العرض مفتوح لشخصين فأكثر فقط .. وعلى أي حال ، لن أموت جوعا في هذه المدينة المليئة بالمطاعم الرديئة ، التي تفتح أبوابها باستمرار ، للخائبين أمثالي ...
نهضت .. و توجهت لأدفع ثمن القهوة و الكروسون ، الذي لم تأكله .. رمقتني بنظرة عتاب ، و قالت :
ـ أنت ضيفي .. رغم اني مضيفة ثقيلة الظل ..
طأطأت رأسي ولم أرد . دفعت ثمن القهوة ، ثم اتجهنا معا إلى مواقف السيارات ، دون أن يحدث أحدنا الآخر . شعرت بتأنيب ضمير على هذا الجفاء ، الذي عاملتها به ، وقبل أن نفترق ، كل إلى سيارته ، التفت إليها ، و قلت :
ـ ديمي سامحيني ..
نظرت إلي بعينين تفيضان بالألم .. وقالت :
ـ لا شيء ألبته ..
حينما ركبت سيارتي انتبهت إلى الكيس الذي حملني إياه رياض ، والمملوء بما بقى من عشائنا . أسرعت بالسيارة في اتجاهها ، وحينما حاذيتها ناديتها :
ـ ديمي ..
التفتت ، وكأن صوتي هاتف نزل عليها من السماء . كانت تبكي ، فانقبض قلبي ، لكني تحاملت ، وقلت :
ـ معي طعام لذيذ جدا ، يحتاج إلى تسخين فقط ، اعتبريه اعتذارا غير كامل ، على تصرف فج ..
إنداحت على صفحة وجهها دوائر من السرور ، فأخذته ، وهي تقول :
ـ اقبله .. ليس على إنه اعتذار .. إنه شيء أكثر من ذلك .. طابت ليلتك ، وأمل أن يحالفك التوفيق في امتحاناتك .. إلى اللقاء يوم الاثنين ، في امتحان الدكتور اندرسون .
في أعماقي لم أكن مرتاحا للطريقة التي تم بها اللقاء ، نفسي تنازعني إليها ، فكرت أن اعتذر لها يوم الاثنين . لكن عن ماذا .. يقول لي عقلي هذه المرة .. ؟ .
وساوس النفس والشيطان تقول لي : (قد تأثم بتنفيرها من الإسلام) . في قرارة نفسي أعلم أنه الهوى والرغبة فيها لذاتها ، وإن كان مع حظ النفس شيئا للإسلام ، فلا بأس . لو كان رجلا ، أو حتى امرأة قليلة الحظ من الجمال ، اكنت تتعب كل هذا التعب ..
اكنت تلوم نفسك .. كل هذا اللوم .. ؟
حين وصلت البيت كان الصراع داخل نفسي قد بلغ مني مبلغة ، بكيت .. بكيت كثيرا ، بكيت حينما تذكرت ، أنني الليلة حدثتني نفسي أن أضع يدي في يدها ، و أقول لها وداعا . داهمني شيطاني بفكرة أن ملامسة يدي لكفها ستطفئ هذه النيران المشتعلة في جوفي ، وأن الرغبة المتقدة في داخلي ستخبو ، بمجرد أن أحس بنبضها ينتفض في كفي ..
نحن هكذا نتوتر أمام كل تجربة جديدة ، أو مغامرة مجهولة .. كان هذا حديث نفسي ..
" كف يا شيطاني " . هذه آخر صيحة دوت في داخلي ، حينما تراجعت عن تلك الفكرة السيئة .. في تلك اللحظة أيضا .. تذكرت (خالد) ، عندما قرأ سورة النازعات ، يوم صلى بنا العشاء قبل أسبوعين 0 تذكرت خالد ، عندما عجز عن إكمال السورة لأكثر من عشر دقائق .. بعد أن غلبه البكاء وهو يقرأ :
" وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى "
ظل خالد يرددها ويغلبه البكاء 0 لم أبك في حياتي مثل تلك الليلة 0 كان صوت خالد الندي يكاد يتشقق عندما يصل إلى قوله تعالى : "مقام ربه" .
يا لهول الموقف .. ثم حينما يصل إلى :
"ونهى النفس عن الهوى" .. يخيل إلى أن كل ما فيه يبكي . كنت أبصر جسده كله يرتعش ، لحظة ينطق لسانه بكلمة الهوى . يشرق بالدمع ثم ينتحب نحيبا يصدع الجبال الصم . وعندما جذب من أعماقه الآية التي تليها :
" يسألونك عن الساعة " شهق شهقة حسبت روحه تخرج معها .