كنا قد فرغنا لتونا من إحدى فقرات المؤتمر ، وبقى على موعد صلاة الظهر أقل من الساعة . اقترحت عليه أن نتناول كوبين من القهوة بالحليب ، مع قطعة من الكيك ، لنضع عن كاهلينا شيئا من العناء ، الذي فرضه ضغط البرنامج ، الذي بدأ مع ساعات الصباح الأولى . استحسن الفكرة ، فتوجهنا إلى الفندق ، حيث مقر إقامتنا .
في البهو الأرضي أخذنا زاوية قصية ، منحنا انعزالها بعض الخصوصية ، و كثيرا من الهدوء الذي نحتاجه . كنت قد تعرفت على مصعب في مؤتمر سابق ، فاستمرت العلاقة بيننا ، رغم بعد المسافة ، وقويت ، لتتحول إلى صداقة حميمة .
مصعب في العشرينات ، برونزي اللون ، شعره أسود فاحم ، و يكسو وجهه لحية خفيفة ، تضفي عليه مسحة من السكينة والوقار ، رغم صغر سنه . في ظلال عينيه يتوارى حزن لا يفصح عن نفسه ، ويمنع من السؤال عنه حياء ، جعل من مصعب قليل الحديث ، وجعل من يعرفه يتردد في الدخول في مغامرة لاستكشاف دخيلتة .
لم نتكلم كثيرا ، لكن مذاق القهوة الساخنة اللذيذ ، وهدوء المكان ، جعلاني أبادر (مصعب) ، عندما رأيت في محياه علامات الاسترخاء ، والاستغراق في لحظات تأمل عميقة ، لأسأله عن أصعب موقف مر به خلال السنوات الخمس ، التي مضت على وجوده هنا ، في الولايات المتحدة الأمريكية ، كشاب نشط في حقل الدعوة إلى الله .
خيل إلى ، حينما صعد نظره في ، كأنما قد سألته عن أمر كان يفكر فيه ، لحظة السؤال .. فقال ، و كأنه يدفع عن نفسه تهمة :
ـ عفا الله عنك ، وأي مواقف تستحق أن تسجل لشاب صغير مثلي ، إلا أن يكون سؤالك استفهاما عن شئ بلغك عني .
كانت عيناه تقولان شيئا قطعا ، وأحسست بالحرج من الطريقة التي رد بها علي ، ومن نظرته إلي فسكت . مرت لحظات من الصمت بيننا ، تشاغلت فيها بتحريك الملعقة داخل كوب القهوة ، الذي بقي فيه نصفه ، وتلهى هو ، بصف مكعبات السكر فوق بعضها في الطبق الذي أمامه . ثم فجأة قال لي :
ـ كأني لم أكن لطيفا في الرد على سؤالك ..؟
ـ لا .. لكن يبدو أنني لم احسن طريقة صياغة السؤال ، أو ربما أنني أقحمت نفسي في شأن خاص .
ـ لا ... ليس أي منهما ، لكن .. و ( تردد لحظة ) أسألك بالله هل بلغك شئ عني..؟
ـ لا والله ، أنت عندي فوق الشبهات ..
أطرق قليلا ، ورأيت سحابة داكنة تظلل وجهه ، ثم رفع رأسه وقال :
ـ أنت تعرف مكانتك عندي ، وسأحدثك حديثا من أعجب ما مر بي .. :
في العام الماضي مررت بتجربة .. كان الفصل الدراسي يلفظ أنفاسه أو يكاد . هذه هي المحاضرة الأخيرة ... قبل الامتحان النهائي ، وكان أستاذ المادة ، " مناهج البحث " ، قد وعدنا أن يستكمل في هذه المحاضرة ما بدأه في المحاضرة السابقة ، من شرح لأهم عناصر المادة . وكما تعلم ، نحن الذين نتحدث الإنجليزية لغة ثانية ، يهمنا جدا ، مثل هذه المحاضرات المركزة ، رغم وطأتها الثقيلة على الذهن .
كنت مستغرقا تماما في الاستماع للدكتور ، والكلمات تخرج تباعا من فمه ، مثلما يقذف بركان حممه . في هذه اللحظة ، وصل (طالب) متأخر – لم ألق له بالا – وصار يخترق الصفوف ، حتى أخذ مقعدا بجانبي . لم أره ، لكني لمحت خيالا ، وسمعت صوت تحريك الكرسي . تأكدت أنه جلس في الكرسي المجاور ، حينما طلب الدفتر الذي أسجل فيه ملاحظاتي . أعطيته إياه ، دون أن أنظر إليه ، أو حتى أسأله ، لماذا .. ، لأني كنت منشغلا بتدوين ما يقوله الدكتور .
كان الدكتور قد أنهى كلامه ، حينما سمعت (الطالب) الذي جلس بجواري يقول :
ـ أريد أن استعير دفترك .. بالمناسبة أنت مسلم ..؟
ألتفت إلى مصدر السؤال ، الذي كان مفاجئا لي ، لتصطدم عيناي بمفاجأة أكبر . لقد كان الذي جلس بجواري ، وطلب دفتري ، فتاة في غاية الجمال . كانت تقلب بين يديها لاصق من ذلك النوع الذي يوضع على مؤخرة السيارة ، والذي يحمل عبارات مثل :
" اقرأ القرآن .. آخر وحي نزل من السماء " ، أو " الإسلام آخر الديانات السماوية .. تعرف عليه " .
كان اللاصق ، مع أوراق أخرى عن الإسلام ، موجود ضمن دفتر محاضراتي ، الذي طلبت الاطلاع عليه . قلت لها ، وأنا أحاول ترتيب دفتري :
ـ نعم أنا مسلم .
كان الدكتور يجمع أوراقه ليغادر القاعة ، حينما بادرتني بسؤال آخر قائلة :
ـ بالمناسبة ما هو الإسلام ..؟
كنت مرتبكا ، مشتت الذهن ، بين الإجابة على سؤالها ، والدخول معها في حوار ، رغم ما وقع في قلبي منها ، وبين شعوري ، من جهة أخرى بالمسئولية ، بتبيان ما هو الإسلام لها .