قصة صغيرة قصص قصيرة
التابوت الصغير
< أمضيتها مشدوهاً كشاعر تسكنه الوحشة، أرقاً أنفخ دخان التبغ في وجه الضجر، وفضاء المكان المزدحم بطوابير من الفراغ، حبلاً بشعور وأحاسيس غريبة نأت بي بعيداً تمنيت لو أجهضتها.
على ضوء أصفر شاحب يثير الشعور بالذنب، قلبي منقبض بشدة تماماً كما لو كان آلة استشعار ورصد أو نزع ألغام.
شيء ما سيحدث؟! ذلك ما أنبأت به عيني التي كانت ترف بسرعة عجيبة ولكن متى؟ وكيف؟ ولماذا؟ ذلك ما كنت أجهله البتة.
مددت يمناي مع هزيع الليل الأخير وأدخلتها من تحت قميصي ووضعتها على صدري..
يا إله الكائنات!! قبائل ترقص على إيقاع قرع الطبول.. هكذا بيّن نبض قلبي.
كنت قد فقدت قداحتي فاضطررت لاسباب اقتصادية اقتناء علبة كبريت رغم أنها ليست عادتي وربما كان الأول منذ ميلاد وإدماني التبغ.
لم أدر ما حدا بي واجترني إلى تأمل علبة الكبريت طيلة الليل ومع كل سيجارة أشعلتها، كلانا سلم للآخر نفسه أنا والسجائر وأعواد الثقاب وكلانا حرص بكل ما أوتي من طاقة على استنزاف صاحبه تماماً.. ولاح الفجر أخيراً وصاح الديك السادي وأذن مؤذنه، فنسيت كما عن غير قصد ما يدور ويصول ويجول بخاطري، وتركت أذني تستجوب الميكرفون بالإصغاء حتى انتهى المصلون من صلاتهم وما هي سوى لحظات حتى أخذ أحدهم الميكرفون معلناً عن وفاة شخص ما عجزت عن تبين اسمه أو اسم عائلته لخفوت الصوت وحزنه، رغم ذلك لم يفتن معرفة وقت الصلاة على ذلك الميت وتنفيذ مراسم الجنازة وكان في الثامنة صباحاً.
حوقلتُ وهللت وعقدت العزم على الذهاب للصلاة عليه كائناً من كان ودخت من الأحاسيس الغريبة والشكوك التي تربصت بي واستحوذت عليَّ وذهبت بي كل مذهب وعجزت عن سبر غورها..
في الثامنة إلا دقائق قصدت المسجد يرافقني الحزن الذي أتخم لفرط ما أسرف فيَّ، وأتوا به في تابوت وطفقنا نصلي عليه وحرصت أن أكون في الصف الأول.
كنت جائعاً إلى موقفٍ كذاك يعيد لي صوابي ويوقظني من غفلتي.. تعب ريحان النعش من إراقة رائحته ورونقه، وتدلت رؤوس «المشاقر» وأوراقها من فرط النعاس، ولدى مغادرتها مكان مراسم الجنازة «المسجد» كانت قد أُتخمت، كانت ما تزال تتجشأ.
عقب ذلك مضينا نغذ الخطى واللين محوقلين حاملين النعش في موكب مهيب نحو المقبرة... وصلنا إليها وانشغل الجميع وانهمك في إهالة التراب على القبر بعد أن وضع التابوت في أحشائه، وخلصت من ذلك وابتعدت لخطوات وطفقت انفض كفي وأصفق إحداها على الأخرى ليتطاير غبار التراب الذي التصق بها، ومن ثم أدخلتها جيبي مطرقاً، وفي أحد الجيبين وجدت علبة أعواد الثقاب والتي قضت ليلتها بصحبتي، تحسستها ولم يكن الأمر هيناً حتى أخرجها جها وأتخلص منها وسط ذلك الحشد.
شردت وأوغلت في الشرود متأملاً ما وجدته في جيبي وما يحدث وكان رهيباً، فالتابوت الصغير الذي بجيبي لم يك بينه والتابوت الكبير الذي أودعناه قبل لحظات القبر فرق خصوصاً في عالم الطرود، إلا أن التابوت الصغير لم يكن به جثة وجيبي لم يكن ذا صبغة دينية..
وقفلت عائداً متثاقلاً لا أقوى على شيء سوى النوم بعد زوال ما أرقني وانقباض قلبي ورفة عيني السريعة، حاملاً ذلك التابوت الصغير في جيبي جاعلاً منه رابطاً يذكرني بهادم اللذات كلما نسيته.